غزة تحت الحصار- تجويع ممنهج واستراتيجيات إسرائيلية خبيثة

قطاع غزة، البقعة الجغرافية الواقعة في الركن الجنوبي الغربي من فلسطين التاريخية، يعتبر بقعة أرض متناهية الصغر، إذ تبلغ مساحته ما يقارب 365 كيلومترًا مربعًا فحسب. ورغم صغر حجمه، يؤوي القطاع أكثر من 2.3 مليون نسمة، يشكل اللاجئون نسبة كبيرة منهم تصل إلى 75%، أي ما يناهز المليونين. هؤلاء اللاجئون، الذين هُجروا قسرًا منذ قيام دولة الاحتلال، يقطنون في ثلاثة عشر مخيمًا تفتقر جميعها بشكل مُريع إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة، مما جعل غزة واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان على مستوى العالم.
جراء الاحتلال الغاشم، والحصار الخانق، والحروب المتكررة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، يعاني القطاع من تدهور مريع في البنية التحتية الحيوية، وأزمات حادة ومستمرة في توفير المياه النظيفة والكهرباء المنتظمة. كما يعاني القطاع من ضعف شديد في القطاعات الصحية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، وغيرها من المجالات الضرورية لحياة كريمة.
تشديد الحصار
في أعقاب انتخابات حرة ونزيهة، شهد لها المراقبون الدوليون، والتي أسفرت عن فوز ساحق لكتلة "الإصلاح والتغيير" في الانتخابات التشريعية (البرلمان)، تنكر العالم الذي يتشدق بالديمقراطية لنتائج هذه الانتخابات. وبدلًا من احترام إرادة الشعب الفلسطيني، فرض الاحتلال حصارًا مشددًا على القطاع، وسط تواطؤ دولي مشين.
تجسد هذا الحصار في إغلاق تدريجي وممنهج لمعظم المعابر التجارية، وتلك المخصصة لحركة الأفراد والمرضى، مع الإبقاء على معبر واحد فقط، والذي يسمح الاحتلال من خلاله بدخول كميات محدودة للغاية من المساعدات الإنسانية. كما فرض الاحتلال ما يسمى "قائمة سلع ممنوعة"، والتي شملت أكثر من ثلاثة آلاف مادة أساسية، من بينها مواد البناء الحيوية، والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات المياه، والمواد الخام الضرورية للصناعة، وحتى مواد أساسية مثل حليب الأطفال والقرطاسية المدرسية!
علاوة على ذلك، فرض الاحتلال حصارًا بحريًا مطبقًا، ومنع الصيادين الفلسطينيين من ممارسة مهنة الصيد، وقام بمضايقتهم وإطلاق النار عليهم، بل وأحرق وقصف قواربهم ومعداتهم. وبذلك، فرض الاحتلال حصارًا شاملًا على غزة، بريًا وجويًا وبحريًا، وهو حصار وصفه في حينه مسؤول رفيع المستوى في منظمة الأمم المتحدة بأنه "غير قانوني وغير أخلاقي وغير إنساني على الإطلاق".
تسببت هذه الإجراءات القمعية في آثار كارثية على مختلف القطاعات الحيوية في غزة، وأدت إلى انهيار شبه تام في المنظومات الصحية والصناعية والتجارية والزراعية والتعليمية، وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة.
كسر الجدار بين غزة ومصر
مع اشتداد وطأة الحصار الخانق، ومنع إدخال المواد الغذائية الأساسية لسكان غزة، اضطر الأهالي عام 2008 إلى اقتلاع الأسلاك الشائكة التي كانت تفصل بين غزة ومصر، وتدفق مئات الآلاف من الفلسطينيين نحو الأراضي المصرية، باعتبارها الجار الأقرب، لإنقاذهم من شبح المجاعة والموت المحقق، سعيًا للخروج من الكارثة الإنسانية والتجويع القاتل الذي يواجهونه اليوم.
توجه الناس إلى الأسواق والمحال التجارية المصرية لشراء المواد الغذائية الضرورية والأدوية المنقذة للحياة والوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء، وكل ما ينقصهم من ضروريات الحياة، وعادوا بها إلى ذويهم في غزة لإنقاذ حياة من تبقى منهم على قيد الحياة، في مشهد يدمي القلوب.
أنفاق التهريب
لجأ الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة إلى فرض واقع جديد على الأرض، بهدف كسر الحصار الجائر المفروض عليه، والذي يفتقر إلى أي أساس إنساني أو قانوني أو أخلاقي. وتجلى ذلك في وضع خطة جريئة لمواجهة الجوع وإنقاذ أهالي القطاع الذين بات الموت والفناء يهددهم بشكل مباشر.
فقد قام الفلسطينيون بحفر الأنفاق السرية بين غزة ومصر، في محاولة يائسة لإدخال ما يسد الرمق. وقد تسبب حفر هذه الأنفاق في مقتل العديد من العمال الذين قاموا بحفرها بأيديهم العارية، وباستخدام أدوات ومعدات بسيطة للغاية. وتشبه هذه الأنفاق في فكرتها وتصميمها الأنفاق التي استخدمتها شعوب أوروبية وفيتنامية على طول الحدود، في محاولة لكسر الحصار الإسرائيلي وإدخال الوقود والغذاء والسلع الأخرى إلى غزة، وتحويلها إلى ممرات تجارية حيوية، ويبدو أن لها توافقات دولية ضمنية كبديل مؤقت عن المعابر الحدودية الرسمية.
كانت جمهورية مصر العربية الشقيقة على علم بوجود هذه الأنفاق، ولكنها غضت الطرف عنها بدافع إنساني. وقد صرح الرئيس المصري الراحل حسني مبارك حينها، بعد إزالة السلك الشائك والعبور الفلسطيني السلمي للحدود، قائلاً: "دول ناس جعانة بتبحث عن الطعام"، وكانت السلطات المصرية تراقب وتدرك أن ما يدخل عبر تلك الأنفاق مخصص للجائعين والمحاصرين، ويتم بطرق تجارية بحتة.
لاحقًا، تم التوصل إلى اتفاق بين الطرف الفلسطيني في غزة والسلطات المصرية يقضي بإغلاق الأنفاق، واستبدالها بخط تجاري رسمي، وفتح معبر رفح الحدودي لإدخال البضائع والاحتياجات الأساسية من مصر إلى غزة، مما خفف من وطأة المجاعة وأوجد نوعًا من الاستقرار النسبي.
وكل ذلك تم على مرأى ومسمع من العالم أجمع، الذي التزم الصمت المطبق، حتى لا يكون شريكًا في جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، من خلال سياسة التجويع الإسرائيلية القاتلة، والتي تندرج ضمن سياسة العقاب الجماعي المحرمة دوليًا، والتي تخالف القانون الدولي الإنساني والأعراف الإنسانية جمعاء.
حرب 2023 والحصار
مع بدء حرب الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أعاد الاحتلال الإسرائيلي العمل بسياسة الحصار الخانق، ولكن هذه المرة بشكل أشد قسوة وضراوة، حيث أُغلقت المعابر الحدودية بشكل تام، بما في ذلك معبر رفح الحيوي، ومُنع إدخال أي شاحنة تحمل مساعدات إنسانية، وأُغلق المجال البحري والجوي أمام حركة السفن والطائرات، وقُطعت إمدادات الكهرباء والمياه عن القطاع.
ومنذ ما يقارب العامين، يُفرض الحصار بشكل مستمر ومتواصل، ويُخفف أحيانًا بشكل طفيف، عن طريق إدخال كميات محدودة للغاية من المساعدات الإنسانية، وذلك بهدف امتصاص الضغط الدولي المتواضع، في ظل بقاء سياسة الإغلاق والحصار نهجًا معلنًا وثابتًا للاحتلال الإسرائيلي.
فن تعميق المجاعة
يتفنن الاحتلال الإسرائيلي، بكل ما أوتي من قوة، عبر أذرعه السياسية والعسكرية والإعلامية المتعددة، في تعميق المجاعة في قطاع غزة المحاصر، ومنع دخول المساعدات الإغاثية الضرورية أو البضائع الأساسية، مع محاولة مستمرة لإيهام العالم الخارجي بعكس الواقع المرير، من خلال ترويج روايات مفبركة وخطوات دعائية مضللة.
فعليًا، لا يسمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخال أي نوع من المساعدات الإنسانية بشكل كاف، وهي بالأساس مقدمة من دول عربية وأجنبية ومؤسسات إنسانية دولية، ولا تأتي من الاحتلال نفسه. فدوره يقتصر فقط على السماح بدخولها، بحكم كونه قوة احتلال، وهو واجب قانوني وإنساني مُلزم، وليس منّة أو كرمًا منه.
إستراتيجية عسكرية
يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع ملف المساعدات الإنسانية المقدمة لأكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة المحاصر، كجزء لا يتجزأ من إستراتيجية عسكرية محكمة ومدروسة: حصار شامل ومطبق، منع دخول شامل للمساعدات، ثم سماح محدود بدخول بعض المساعدات بشروط أمنية قاسية ومهينة.
مؤخرًا، أعلن الاحتلال الإسرائيلي عن إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation) في عام 2025، وهي كيان خاص أُسّس بالتنسيق مع شخصيات أمنية أميركية، وبرعاية غير مباشرة من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبدعم من شركات أمنية خاصة. وقد وُكِلت إلى هذه المؤسسة مهمة توزيع المساعدات الإنسانية خلال الحرب، وفقًا لتقرير صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار".
تعتمد هذه المؤسسة على عدد محدود من مراكز التوزيع المركزية، والتي يقع معظمها في وسط وجنوب قطاع غزة، وتُدار هذه المراكز من خلال مقاولين مسلحين، من دون إشراف مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يروج الاحتلال الإسرائيلي لهذه المؤسسة على أنها بديل عن المؤسسات الأممية والدولية العريقة، ولكن الواقع على الأرض يكشف عن غير ذلك تمامًا، فقد تسببت هذه الآلية الجديدة في سقوط العديد من الشهداء والجرحى من بين صفوف المدنيين الجوعى الذين كانوا ينتظرون الحصول على المساعدات، وربما كان عدد الضحايا أكبر من عدد الذين تلقوا المساعدات فعليًا!
مساعدات بخلفيات أمنية
حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يظهر توزيع المساعدات الإنسانية وكأنه يتماشى مع القانون الدولي، فقام بتأسيس كيان جديد، بعد أن قام بتشويه صورة المؤسسات الأممية والخيرية العريقة، واتهامها زورًا وبهتانًا بدعم الإرهاب.
لكن هذه المؤسسة الجديدة، والتي تحدثت تقارير إعلامية دولية عديدة عن خلفيات أمنية وعسكرية لمؤسسيها، واجهت انتقادات واسعة النطاق، لما وُصف بأنه "موت محقق" للمدنيين.
أظهرت عشرات الفيديوهات التي تم تداولها على نطاق واسع، أن المؤسسة كانت تعلن عبر صفحتها على موقع "فيسبوك" عن فتح مركز لتوزيع المساعدات في تمام الساعة 12 ظهرًا، فيتهافت الآلاف من المدنيين الجوعى إلى المركز، ثم تُعلن المؤسسة خلال 15 دقيقة فقط عن انتهاء عملية التوزيع، بسبب نفاد الكمية المخصصة!
وهل يُعقل منطقيًا أن يتم توزيع آلاف الطرود من المساعدات الغذائية في ربع ساعة فقط؟!
وفيما الناس لا يعلمون أن "التوزيع الكاذب" قد انتهى قبل أن يبدأ، يُطلق النار عليهم بشكل عشوائي من قِبل جنود الاحتلال وعناصر المؤسسة المسلحين. فهل يُعقل أن يحمل رجال العمل الخيري النبيل السلاح؟!
وقد بلغ عدد الشهداء من المدنيين الذين كانوا ينتظرون الحصول على المساعدات الغذائية أكثر من 550 شهيدًا، إضافةً إلى إصابة أكثر من 3 آلاف و500 شخص بجروح خطيرة.
ووفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن 80% من شهداء المساعدات هم من فئة الشباب، و14% من الأطفال، و3% من النساء، و3% من كبار السن.
لذلك، رفضت المنظمات الأممية الكبرى، مثل الأمم المتحدة، والصليب الأحمر الدولي، ومنظمة أطباء بلا حدود، ومنظمة أوكسفام، التعاون مع هذه المؤسسة المشبوهة، واعتبرتها خطرًا حقيقيًا على مبادئ العمل الإنساني الأساسية: السلامة، والحيادية، وعدم الانحياز.
الضوابط الأممية والأخلاقية
بموجب القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة (المواد 59-61)، والقانون الدولي العرفي (القاعدة 55)، تقع على عاتق الاحتلال الإسرائيلي التزامات صارمة وواضحة:
- تقديم المساعدات الإنسانية على أساس الحاجة الماسة فقط، دون أي تمييز بين المستفيدين.
- ضمان سلامة المساعدات الإنسانية والمنظمات التي تقوم بتوزيعها على المستحقين.
- عدم استخدام عملية التوزيع بطريقة تمييزية أو مهينة أو خطرة على حياة المدنيين.
- عدم استخدام التجويع كسلاح حرب، باعتباره جريمة حرب بموجب القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
مسؤوليات الاحتلال
السلطة القائمة بالاحتلال مُلزمة قانونًا وأخلاقيًا بتوفير الغذاء الكافي والماء النظيف والدواء اللازم والحماية الكاملة للسكان الواقعين تحت سلطتها، وقبول المساعدات الإنسانية وتنظيم توزيعها بشكل عادل وشفاف، وبدون أي تمييز بين السكان.
ويُعدّ حرمان السكان من الغذاء أو فرض العقوبات الجماعية عليهم جريمة حرب مكتملة الأركان، كما نصّت على ذلك اتفاقية روما الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية.
وينبغي تحديد أماكن توزيع آمنة ومناسبة، وعدم إجبار الناس على التجمع في مناطق خطرة ومكشوفة، وتوفير وسائل نقل مناسبة وتسهيلات ميدانية تضمن سلامة المدنيين وتحفظ كرامتهم الإنسانية.
لكن الواقع المرير يشير إلى عكس ذلك تمامًا، حيث تُقام مراكز التوزيع في "مناطق عسكرية مغلقة"، من دون توفير وسائل نقل مناسبة، مما يعرّض المدنيين للإذلال والمعاناة والهلاك.
آليات العمل الإنساني الصحيحة
العمل الإنساني الدولي يقوم على تنسيق الجهود المشتركة بين المنظمات الدولية والمحلية، من خلال تشكيل مجموعات عمل قطاعية متخصصة (الصحة، المياه، المأوى… وغيرها)؛ وذلك لضمان فاعلية الاستجابة الإنسانية وتلبية الاحتياجات الضرورية للمدنيين.
ورغم التعقيدات الكبيرة التي تواجه العمل الإنساني في مناطق النزاع المسلح، مثل السودان وسوريا، فإن هناك التزامًا واضحًا من جانب المنظمات الإنسانية بتقديم مساعدات منقذة للحياة للمدنيين المتضررين، وهو ما لا يحدث في قطاع غزة المحاصر.
النظام الدولي والقانون
تحظر اتفاقية جنيف الرابعة بشكل قاطع استخدام التجويع كسلاح من أسلحة الحرب، وتوفّر حماية خاصة للمدنيين الواقعين تحت الاحتلال العسكري.
وقد أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2720 بتاريخ 22 ديسمبر/ كانون الأول 2023، والذي يطالب بإيصال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر الحدودية فورًا ودون تأخير.
أما الادعاءات الباطلة التي تزعم أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" تعمل لصالح الفصائل الفلسطينية، فهو ادعاء لا أساس له من الصحة، كما أكدت الوكالة مرارًا وتكرارًا، ويخالف القانون الدولي.
ومن أبرز القوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع:
1- تسهيل عبور المساعدات الإنسانية – اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 59.
2- حظر التجويع – النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
3- حيادية وشفافية التوزيع – القانون الدولي العرفي.
4- توفير أماكن آمنة وعدم فرض التنقل القسري – اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC).
هل ستصمت غزة طويلًا؟
يبقى السؤال المطروح بقوة: هل ستصمت غزة طويلًا على هذا الوضع المأساوي؟ أعتقد أن استمرار سياسة التجويع والحصار الخانق قد يدفع السكان اليائسين إلى البحث عن خيارات أخرى، بما في ذلك العودة إلى تنظيم المسيرات السلمية الحاشدة باتجاه الوطن المحتل، أو اللجوء إلى طرق أخرى للتعبير عن رفضهم للظلم. فالمجوّع لن يصمت طويلًا على جوعه.
وعلى دول الجوار أن تدرك أن الغزيّ إذا وُضع بين خياري الموت جوعًا أو محاولة فرض واقع جديد للحياة بجهده وعزيمته، فسيختار حتمًا خيار الحياة الكريمة.